فصل: المسألة الثانية: (هل كان متعبدا بعد البعثة بشرع من قبله أم لا؟)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ***


الفصل السابع في الاستدلال

وهو في اصطلاحهم ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس لا يقال هذا من تعريف بعض الأنواع ببعض وهو تعريف بالمساوي في الجلاء والخفاء بل هو تعريف للمجهول بالمعلوم لأنه قد سبق العلم بالنص والإجماع والقياس واختلفوا في أنواعه فقيل هي ثلاثة‏:‏ الأول التلازم بين الحكمين من غير تعيين علة وإلا كان قياسا الثاني استصحاب الحال الثالث شرع من قبلنا قالت الحنفية ومن أنواعه نوع رابع وهو الاستحسان وقالت المالكية ومن أنواعه نوع خامس وهو المصالح المرسلة وسنفرد لكل واحد من هذه الأنواع بحثا ونلحق بها فوائد لاتصالها بها بوجه من الوجوه‏.‏

البحث الأول‏:‏ في التلازم

وهو أربعة أقسام لأن التلازم إنما يكون بين حكمين وكل واحد منهما إما مثبت أو منفي وحاصله إذا كان تلازم تساو فثبوت كل يستلزم ثبوت الآخر ونفيه نفيه وإن كان مطلق اللزوم فثبوت الملزوم يستلزم ثبوت اللازم من غير عكس ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم من غير عكس وخلاصة هذا البحث ترجع إلى الاستدلال بالأقيسة الاستثنائية والاقترانية قال الآمدي ومن أنواع الاستدلال قولهم وجد السبب والمانع أو فقد الشرط ومنها انتفاء الحكم لانتفاء مدركه ومنها الدليل المؤلف من أقوال يلزم من تسليمها لذاتها قول آخر ثم قسمه إلى الاقتراني والاسثنائي وذكر الاشكال الأربعة وشروطها وضروبها انتهى فليرجع في هذا البحث إلى ذلك الفن وإذا كان هذا لا يجري إلا فيما فيه تلازم أو تناف فالتلازم إما أن يكون طردا أو عكسا أي في الطرفين أو طردا لا عكسا أي من طرف واحد والتنافي لابد أن يكون من الطرفين لكنه إما أن يكون طردا وعكسا أي إثباتا ونفيا وأما طردا فقط أي إثباتا وإما عكسا فقط أي نفيا‏:‏

الأول‏:‏ المتلازمان طردا وعكسا وذلك كالجسم والتأليف إذ كل جسم مؤلف وكل مؤلف جسم وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين وبين النفيين كلاهما طردا وعكسا فيصدق كلما كان جسما كان مؤلفا وكلما كان مؤلفا كان جسما وكلما لم يكن مؤلفا لم يكن جسما وكلما لم يكن جسما لم يكن مؤلفا‏.‏

الثاني‏:‏ المتلازمان طردا فقط كالجسم والحدوث إذ كل جسم حادث ولا ينعكس في الجوهر الفرد فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوتين طردا فيصدق كلما كان جسما كان حادثا لا عكسا فلا يصدق كلما كان حادثا كان جسما ويجري فيه التلازم بين النفيين عكسا فيصدق كلما لم يكن حادثا لم يكن جسما لا طردا فلا يصدق كلما لم يكن جسما لم يكن حادثا‏.‏

الثالث‏:‏ المتنافيان طردا وعكسا كالحدوث ووجوب البقاء فإنهما لا يجتمعان في ذات فتكون حادثة واجبة البقاء ولا يرتفعان فيكون قديما غير واجب البقاء فهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي وبين النفي والثبوت طردا وعكسا أي من الطرفين فيصدق لو كان حادثا لم يجب بقاؤه ولو وجب بقاؤه لم يكن حادثا فلا يجب بقاؤه ولو لم يجب بقاؤه فلا يكون حادثا‏.‏

الرابع‏:‏ المتنافيان طردا لا عكسا إي إثباتا لا نفيا كالتأليف والقدم إذ لا يجتمعان فلا يوجد شيء هو مؤلف وقديم لكنهما قد يرتفعان كالجزء الذي لا يتجزأ وهذا يجري فيه التلازم بين الثبوت والنفي طردا وعكسا أي من الطرفين فيصدق كلما كان جسما لم يكن قديما وكلما كان قديما كان جسما‏.‏

الخامس‏:‏ المتنافيان عكسا أي نفيا كالأساس والخلل فإنهما لا يرتفعان فلا يوجد ما ليس له أساس ولا يختل وقد يجتمعان في كل ما له أساس قد يختل بوجه آخر وهذا يجري فيه تلازم النفي والإثبات طردا وعكسا فيصدق كل ما لم يكن له أساس فهو مختل وكل ما لم يكن مختلا فليس له أساس ولا يصدق كل ما كان له أساس فليس بمختل وكل ما كان مختلا فليس له أساس وما قدمنا عن الآمدي أن من أنواع الاستدلال قولهم وجد السبب الخ هو أحد الأقوال لأهل الأصول وقال بعضهم إنه ليس بدليل وإنما هو دعوى دليل فهو بمثابة قولهم وجد دليل الحكم فيوجد الحكم لا يكون دليلا ما لم يعين وإنما الدليل ما يستلزم المدلول وقال بعضهم هو دليل إذ لا معنى للدليل إلا ما يلزم من العلم بالمدلول والصواب القول الأول أنه استدلال لا دليل ولا مجرد دعوى واعلم أنه يرد على جميع أقسام التلازم من الاعتراضات السابقة جميع ما تقدم ما عدى الاعتراضات الواردة على نفس العلة‏.‏

البحث الثاني‏:‏ الاستصحاب

أي استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي ومعناه أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل مأخوذ من المصاحبة وهو بقاء ذلك لأمر ما لم يوجد ما يغيره فيقال الحكم الفلاني قد كان فيما مضى وكلما كان فيما مضى ولم يظن عدمه فهو مظنون البقاء‏.‏

قال الخوارزمي في الكافي وهو آخر مدار الفتوى فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس فإن لم يجده فيأخد حكمها من استصحاب الحال في النفي والاثبات فإن كان التردد في زواله فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته فالأصل عدم ثبوته انتهى واختلفوا هل هو حجة عند عدم الدليل على أقوال الأول‏؟‏ أنه حجة وبه قالت الحنابلة وإنما المالكية وأكثر الشافعية والظاهرية سواء كان في النفي أو الاثبات وحكاه ابن الحاجب عن الأكثرين‏:‏ الثاني أنه ليس بحجة وإليه ذهب أكثر الحنفية والمتكلمين كأبي الحسين البصري قالوا لأن الثبوت في الزمان الأول يفتقر إلى الدليل فكذلك في الزمان الثاني لأنه يجوز أن يكون وأن يكون وهذا خاص عندهم بالشرعيات بخلاف الحسيات فإن الله سبحانه أجرى العادة فيها بذلك ولم يجر العادة به في الشرعيات فلا تلحق بالحسيات ومنهم من نقل عنه تخصيص النفي بالأمر الوجودي ومنهم من نقل عنه الخلاف مطلقا قال الصفي الهندي وهو يقتضي تحقق الاختلاف في الوجودي والعدمي جميعا لكنه بعيد إذ تفاريعهم تدل على أن استصحاب العدم الأصلي حجة‏.‏

قال الزركشي والمنقول في كتب أكثرالحنفية أنه لا يصلح حجة على الغير ولكن يصلح للرفع والدفع‏.‏

وقال أكثر المتأخرين منهم أنه حجة لإبقاء ما كان ولا يصلح حجة لإثبات أمر لم يكن الثالث أنه حجة على المجتهد فيما بينه وبين الله عز وجل فإنه لا يكلف إلا ما يدخل تحت مقدوره فإذا لم يجد دليلا سواه جاز له التمسك ولا يكون حجة على الخصم عند المناظرة فإن المجتهدين إذا تناظروا لم ينفع المجتهد قوله لم أجد دليلا على هذا لأن التمسك بالاستصحاب لا يكون إلا عند عدم الدليل الرابع أنه يصلح حجة للدفع وإليه ذهب أكثر الحنفية‏.‏

قال إلكيا ويعبرون عن هذا باستصحاب الحال صالح لأبقاء ما كان على ما كان إحالة على عدم الدليل لا لإثبات أمر لم يكن وقد قدمنا أن هذا قول أكثر المتأخرين منهم الخامس أنه يجوز الترجيح به لا غير نقله الأستاذ أبو إسحاق عن الشافعي وقال إنه الذي يصح عنه لا أنه يحتج به السادس أن المستصحب إن لم يكن غرضه سوى نفي ما نفاه صح ذلك وإن كان غرضه إثبات خلاف قوله خصمه من وجه يمكن استصحاب الحال في نفي ما أثبته فلا يصح حكاه الأستاذ أبو منصور البغدادي عن بعض اصحابه الشافعي‏.‏

قال الزركشي لابد من تنقيح موضع الخلاف فإن أكثر الناس يطلقه ويشتبه عليهم موضع النزاع فنقول للإستصحاب صور إحداهما استصحاب ما دل العقل والشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان القول المقتضى له وشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام ودوام الحل في المنكوحة بعد تقرير النكاح فهذا لا خلاف في وجوب العمل به إلى أن يثبت معارض قال‏:‏ الثانية استصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذمة من التكليف حتى يدل دليل شرعي على تغيره كنفي صلاة سادسة‏.‏

قال القاضي أبو الطيب وهذا حجة بالإجماع من القائلين بأنه لا حكم قبل الشرع فإن الثالثة استصحاب الحكم العقلي عند المعتزلة فإن عندهم أن العقل يحكم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعي وهذا لا خلاف بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات‏.‏

قال‏:‏ الرابعة استصحاب الدليل مع احتمال المعارض إما تخصيصا إن كان الدليل ظاهرا أو نسخا إن كان الدليل نصا فهذا أمر معمول به إجماعا وقد اختلف في تسمية هذا النوع بالاستصحاب فأثبته جمهور الأصوليين ومنعه المحققون منهم إمام الحرمين في البرهان وإلكيا في تعليقه وابن السمعاني في القواطع لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ لا من ناحية اللفظ لا من ناحية الإستصحاب‏.‏

قال الخامسة الحكم الثابت بالإجماع في محل النزاع وهو راجع إلى الحكم الشرعي بأن يتفق على حكم في حالة ثم يتغير صفة المجمع عليه فيختلفون فيه فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال مثاله إذا استدل من يقول إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة وكقول الظاهرية يجوز بيع أم الولد لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد وهذا النوع هو محل الخلاف كما قاله في القواطع وهكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها فذهب الأكثرون منهم القاضي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والغزالي إلى أنه ليس بحجة‏.‏

قال الأستاذ أبو منصور وهو قول جمهور اهل الحق من الطوائف وقال المارودي والروياني في كتاب القضاء إنه قول الشافعي وجمهور العلماء فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب بل إن اقتضى القياس أو غيره ألحاقه بما قبل ألحق به وإلا فلا قال وذهب أبو ثور وداود الظاهري إلى الاحتجاج به ونقله ابن السمعاني عن المزني وابن سريج والصيرفي وابن خيران وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي الحسين بن القطان قال واختاره الآمدي وابن الحاجب قال سليم الرازي في التقريب إنه الذي ذهب إليه شيوخ اصحابنا فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل الدليل على ارتفاعه انتهى والقول الثاني هو الراجح لأن المتمسك بالاستصحاب باق على الأصل قائم في مقام المنع فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذكل فمن ادعاه جاء به‏.‏

البحث الثالث‏:‏ شرع من قبلنا

وفي ذلك مسألتان‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ هل كان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة متعبدا بشرع أم لا‏؟‏

وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب فقيل أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا قبل البعثة بشريعة آدم لأنها أول الشرائع وقيل بشريعة نوح لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏}‏ وقيل بشريعة إبراهيم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن اتبع ملة إبراهيم‏}‏ قال الواحدي وهذا هو الصحيح قال ابن القشيري في المرشد وعزي إلى الشافعي‏.‏

قال الأستاذ أبو منصور وبه نقول وحكاه صاحب المصادر عن أكثر أصحاب أبي حنيفة وإليه أشار أبو علي الجبائي وقيل كان متعبدا بشريعة موسى وقيل بشريعة عيسى لأنه أقرب الأنبياء ولأنه الناسخ لما قبله من الشرائع وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني كما حكاه عنه الواحدي وقيل كان على شرع من الشرائع ولا يقال كان من أمة نبي من الأنبياء أو على شرعه‏.‏

قال ابن القشيري في المرشد وإليه كان يميل الأستاذ أبو إسحاق وقيل كان متعبدا بشريعة كل من قبله من الأنبياء إلا ما نسخ منها واندرس حكاه صاحب الملخص وقيل كان متعبدا بشرع ولكن لا ندري بشرع من تعبده الله حكاه ابن القشيري وقيل لم يكن قبل البعثة متعبدا بشرع حكاه في المنخول عن إجماع المعتزلة قال القاضي في مختصر التقريب وابن القشيري هو الذي صار إليه جماهير المتكلمين قال جمهورهم إن ذلك محال عقلا إذ لو تعبد باتباع أحد لكان غضا من نبوته وقال بعضهم بل كان على شريعة العقل قال ابن القشيري وهذا باطل إذ ليس للعقل شريعة‏.‏

ورجح هذا المذهب أعني عدم التعبد بشرع قبل البعثة القاضي وقال هذا ما ترتضيه وتنصره لأنه كان على دين لنقل ولذكره صلى الله عليه وسلم إذ لا يظن به الكتمان وعارض ذلك إمام الحرمين وقال لو لم يكن على دين أصلا لنقل فإن ذلك أبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي قال فقد تعارض الأمران والوجه أن يقال كانت العادة انحرفت في أمور الرسول صلى الله عليه وسلم بانصرافهم الناس عن أمر دينه والبحث عنه ولا يخفى ما في هذه المعارضة من الضعف وسقوط ما زمه عليها وقيل بالوقف وبه قال إمام الحرمين وابن القشيري وإلكيا والغزالي والآمدي والشريف المرتضى واختاره النووي في الروضة قالوا إذ ليس فيه دلالة عقل ولا ثبت فيه نص ولا إجماع‏.‏

قال ابن القشيري في المرشد بعد حكاية الاختلاف في ذلك وكل هذه أقوال متعارضة وليس دلالة قاطعة والعقل يجوز ذلك لكن أين السمع فيه انتهى قال إمام الحرمين هذه المسألة لا تظهر لها فائدة بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ووافقه المازري والماوردي وغيرهما وهذا صحيح فإنه لا يتعلق بذلك فائدة باعتبار هذه الأمة ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته وأقرب هذه الأقوال قول من قال إنه كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير البحث عنها عاملا بما بلغ إليه منها كما يعرف ذلك من كتب السير وكما تفيده الآيات القرآنية من أمره صلى الله عليه وسلم بعد البعثة باتباع تلك الملة فإن ذلك يشعر بمزيد خصوصية لها فلو قدرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ ‏[‏هل كان متعبدا بعد البعثة بشرع من قبله أم لا‏؟‏‏]‏

اختلفوا هل كان متعبدا بعد البعثة بشرع من قبله أم لا‏؟‏ على أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أنه لم يكن متعبدا باتباعها بل كان منهيا عنها وإليه ذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه واختاره الغزالي في آخر عمره قال ابن السمعاني إنه المذهب الصحيح وكذا قال الخوارزمي في الكافي واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن لم يرشده إلا إلى العمل بالكتاب والسنة ثم اجتهاد الرأي وصحح هذا القول ابن حزم واستدلوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏}‏ وبالغت المعتزلة فقالت باستحالة ذلك عقلا وقال غيرهم العقل لا يحيله ولكنه ممتنع شرعا واختاره الفخر الرازي والآمدي‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنه كان متعبدا بشرع من قبله إلا ما نسخ منه نقله ابن السمعاني عن أكثر الشافعية وأكثر الحنفية وطائفة من المتكلمين قال ابن القشيري هو الذي صار إليه الفقهاء واختاره الرازي وقال إنه قول أصحابهم وحكاه الأستاذ أبو منصور عن محمد بن الحسن واختاره الشيخ أبو إسحاق واختاره ابن الحاجب وقال ابن السمعاني وقد أومأ إليه الشافعي في بعض كتبه قال القرطبي وذهب إليه معظم أصحابنا يعني المالكية قال القاضي عبد الوهاب إنه الذي تقتضيه أصول مالك واستدلوا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ الآية فإن ذلك مما استدل به في شرعنا على وجوب القصاص ولو لم يكن متعبدا بشرع من قبله لما صح الاستدلال بكون القصاص واجبا في شرع بني إسرائيل على كونه واجبا في شرعه واستدلوا أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم لما قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها قرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ وهي مقولة لموسى فلو لم يكن متعبدا بشرع من قبله لما كان لتولاة الآية عند ذلك فائدة واستدلوا بما ثبت عن ابن عباس أنه سجد في صورة ص وقرأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ فاستنبط التشريع من هذه الآية واستدلوا أيضا بما ثبت في الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه ولولا ذلك لم يكن لمحبته للموافقة فائدة ولا أوضح ولا أصرح في الدلالة على هذا المذهب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا‏}‏‏.‏

القول الثالث‏:‏ الوقف حكاه ابن القشيري وابن البرهان وقد فصل بعضهم تفصيلا حسنا فقال إنه إذا بلغنا شرع من قبلنا على لسان الرسول أو لسان الرسول أو لسان من أسلم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ولم يكن منسوخا ولا مخصوصا فإنه شرع لنا وممن ذكر هذا القرطبي ولابد من هذا التفصيل على قول القائلين بالتعبد لما هو معلوم من وقوع التحريف والتبديل فإطلاقهم مقيد بهذا القيد ولا أظن أحدا منهم يأباه‏.‏

البحث الرابع‏:‏ الاستحسان

واختلف في حقيقة فقيل هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ويعسر عليه التعبير عنه وقيل هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقيل هو العدول عن الحكم إلى العادة لمصلحة الناس قيل تخصيص قياس بأقوى منه ونسب القول به إلى أبي حنيفة وحكى عن أصحابه ونسبه إمام الحرمين إلى مالك وأنكره القرطبي فقال ليس معروفا من مذهبه وكذلك أنكر اصحاب أبي حنيفة ما حكى عن الحنابلة‏.‏

قال ابن الحاجب في المختصر قالت به الحنفية والحنابلة وأنكره غيرهم انتهى وقد أنكره الجمهور حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع قال الروياني معناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعا غير الشرع وفي رواية عن الشافعي أنه قال القول بالاستحسان باطل‏.‏

وقال الشافعي في الرسالة الاستحسان تلذذ ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا‏.‏

قال جماعة من المحققين الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه لأنهم ذكروا في تفسيره أمور لا تصلح للخلاف لأن بعضها مقبول اتفاقا وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا وما هو مردود اتفاقا وجعلوا من صور الاتفاق على القبول قول من قال إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقول من قال إنه تخصيص قياس بأقوى منه وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ويصر علي التعبير عنه لأنه إن كان معنى قوله ينقدح أنه يتحقق ثبوته والعمل به واجب عليه فهو مقبول اتفاقا وإن كان بمعنى أنه شاك فهو مردود اتفاقا إذ لا يثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك وجعلوا من المتردد ايضا قول من قال إنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس فقالوا إن كان العادة هي الثابتة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت بالسنة وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة من غير إنكار فقد ثبت بالأجماع وأما غيرها فإن كان نصا وقياسا مما ثبت حجيته فقد ثبت ذلك به وإن كان شيئا آخر لم تثبت حجيته فهو مردود قطعا وقد ذكر الباجي أن الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو القول بأقوى الدليلين كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر قال وهذا هو الدليل فإن سموه استحسانا فلا مشاحة في التسمية‏.‏

وقال ابن الأنباري الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان لا على ما سبق بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس ومثاله لو اشترى سلعة بالخيار ثم مات وله ورثة فقيل يرد وقيل يختار الامضاء قال أشهب القياس الفسخ ولكنا نستحسن إن أراد الامضاء أن يأخذ من لم يمض إذا امتنع البائع من قبوله نصيب الراد‏.‏

قال ابن السمعاني إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الانسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل ولا أحد يقول به ثم ذكر أن الخلاف لفظي ثم قال فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به وإن تفسير الاستحسان بالعدول عن دليل إلى دليل أقوى منه فهذا مما لم ينكره أحد عليه لكن هذا الاسم لا يعرف إسما لما تقاربه‏.‏

وقد سبقه إلى مثل هذا القفال فقال إن كان المراد بالاستحسان ما دلت الأصول بمعانيها فهو حسن لقيام الحجة به قال فهذا لا ننكره ونقول وبه وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه من غير حجة دلت عليه من أصل ونظير فهو محظور والقول به غير سائغ‏.‏

قال بعض المحققين الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم على ضربين‏:‏ أحدهما واجب بالإجماع وهو أن يقدم الدليل الشرعي أو العقلي لحسنه فهذا يجب العمل به لأن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع والضرب الثاني أن يكون على مخالفة ادليل مثل أن يكون الشيء محظورا بدليل شرعي وفي عادات الناس التحقيق فهذا عندنا يحرم القول به ويجب اتباع الدليل وترك العادة والرأي سواء كان ذلك الدليل نصا أو إجماعا أو قياسا انتهى فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلا لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار وإن كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة وبما يضادها أخرى‏.‏

البحث الخامس‏:‏ المصالح المرسلة

قد قدمنا الكلام فيها في مباحث القياس وسنذكر هاهنا بعض ما يتعلق بها تتميما للفائدة ولكونها قد ذكرها جماعة من أهل الأصول في مباحث الاستدلال ولهذا سماها بعضهم بالاستدلال المرسل وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليها اسم استدلال‏.‏

قال الخوارزمي والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد عن الخلق‏.‏

قال الغزالي هي أن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب عقلا ولا يوجد أصل متفق عليه وقال ابن برهان هي ما لا تستند إلى أصل كلي ولا جزئي وقد اختلفوا في القول بها على مذاهب‏:‏ الأول منع التمسك بها مطلقا وإليه ذهب الجمهور الثاني الجواز مطلقا وهو المحكى عن مالك‏.‏

قال الجويني في البرهان وأفرط في القول بها حتى جزاه إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح يقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لها مستندا وقد حكى القول بها ومنهم القرطبي وقال ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها وهو مذهب مالك قال وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني وجازف فيما نسبه إلى مالك من الافراط في هذا الأصل وهذا الأصل وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه‏.‏

قال ابن دقيق العيد الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ويليه أحمد بن حنبل ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما انتهى‏.‏

قال القرافي هي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ولانعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك الثالث إن كانت ملائكة لأصل كلي من أصول الشرع أو لأصل جزئي جاز بنا الأحكام عليها ولا فلا حكاه ابن برهان في الوجيز عن الشافعي وقال إنه الحق المختار‏.‏

قال إمام الحرمين ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنفية إلى تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة بشرط الملاءمة للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول الرابع إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس وبالكلية أن تعم جميع المسلمين لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة واختار وبالكلية أن تعم جميع المسلمين لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة‏.‏

واختار هذا الغزالي والبيضاوي ومثل الغزالي للمصلحة المستجمعة بمسألة الترس وهي ماذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين وإذا رمينا قتلنا مسلما من دون جريمة منه ولو تركنا الرمي لسلطنا الكفار على المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى الذين تترسوا بهم فحفظ المسلمين بقتل من تترسوا به من المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نقطع أن الشرع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسمه عند الإمكان فحيث لم نقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة على الحصر ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له اصل فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة وهي كونها ضرورية كلية قطعية فخرج بالكلية فإذا اشرف جماعة في سفينة على الغرق ولو غرق بعضهم لنجوا فلا يجوز تغريق البعض وبالقطعية ما إذا شككنا في كون الكفار يتسلطون عن عدم رمي الترس إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القعلة‏.‏

قال القرطبي هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها وأما ابن المنير فقال هو احتكام من قائلة ثم هو تصويرها بما لا يمكن عادة ولا شرعا أما عادة فلأن القطع في الحوادث المستقلة لا سبيل إليه إذ هو عبث وعناد وأما شرعا فلأن الصادق المعصوم قد أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدوها عليها ليستأصل شأفتها قال وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال بها لتضيقه في قبولها باشتراط ما لا يتصور وجوده انتهى‏.‏

قال الزركشي وهذا تحامل منه فإن الفقيه يفرض المسائل النادرة لاحتمال وقوعها بل المستحيلة لرياضة الأفهام ولا حجة له في الحديثة لأن المراد به كافة الخلق وتصوير الغزالي إما هو في أهل محلة يخصوصهم استولى عليهم الكفار لا جميع العالم وهذا واضح انتهى‏.‏

قال ابن دقيق العيد لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح لكن الاسترسال فيها وتحقيقها محتاج إلى نظر سديد وربما يخرج عن الحد وقد نقلوا عن عمر رضي الله عنه أنه قطع لسان الحطيئة بسبب الهجو فإن صح ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة وحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة القطع للمصلحة وهذا يجر إلى النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة قال وشاورني بعض القضاءة في قطع أنملة شاهد والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها وكل هذا منكرات عظيمة الموقع في الدين واسترسال قبيح في أذى المسلمين انتهى‏.‏

فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال

الفائدة الأولى‏:‏ في قول الصحابي

اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر والآمدي وابن الحاجب وغيرهم واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم على أقوال‏:‏

الأول أنه ليس بحجة مطلقا وإليه ذهب الجمهور‏.‏

الثاني أنه حجة شرعية مقدمة على القياس وبه قال أكثر الحنفية ونقل عن مالك وهو قول الشافعي‏.‏

الثالث أنه حجة إذا انضم إليه القياس فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي وهو ظاهر قول الشافعي في الرسالة قال وأقوال الصحابة إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان أصح في القياس وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا ولا سنة ولا إجماعا ولا شيئا يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس انتهى‏.‏

وحكى القاضي حسين وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة إذا عضده القياس وكذا حكاه عنه القفال الشاشي وابن القطان‏.‏

قال القاضي في التقريب إنه قاله الشافعي في الجديد واستقر عليه مذهبه وحكاه عنه المزني وابن أبي هريرة الرابع أنه حجة إذا خالف القياس لأنه لا محمل له إلا التوقيف وذلك القياس والتحكم في دين الله باطل فيعلم أنه لا يقلد إلا توقيفا‏.‏

قال ابن برهان في الوجيز وهذا هو الحق المبين قال‏:‏ ومسائل الإمامين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تدل عليه انتهى ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد أما إذا لم يكن منها ودل دليل على التوقيف فليس مما نحن بصدده والحق أنه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأمة مأمور باتياع كتابة وسنة نبيه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية وباتباع الكتاب والسنة فمن قال إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله وسنة رسوله وما يرجع إليهما قد قال في دين الله لا يثبت وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله وهذا أمر عظيم وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله أو اقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل به وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى مما لا يدان الله عز وزجل به ولا يحل لمسلم الركون إليه ولا العمل عليه فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم وإن بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة وعظمة الشأن وهذا مسلم لا شك فيه ولهذا مد أحدهم لا يبلغه من غيرهم الصدقة بأمثاله الجبال ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة قوله وإلزام الناس باتباعه فإن ذلك مما لم يأذن الله به ولا ثبت عنه فيه حرف واحد وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي مما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فهذا مما لم يثبت قط والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل على أنه لو ثبت من وجه صحيح لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة الثابتة من الكتابة والسنة وحرصهم على اتباعها ومشيهم على طريقتها يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها واتباعها هداية كاملة لأنه لو قيل لأحدهم لم قلت كذا لم فعلت كذا لم يعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة ولم يتلعثم في بيان ذلك وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وما صح عنه من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين» فاعرف هذا واحرص عليه فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولا إلا محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يأمرك باتباع غيره ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ولا جعل شيئا منه الحجة عليك في قول غيره كائنا من كان‏.‏

الفائدة الثانية‏:‏ الأخذ بأقل ما قيل

فإنه أثبته الشافعي والقاضي أبو بكر الباقلاني قال القاضي عبد الوهاب وحكى بعض الأصوليين إجماع أهل النظر عليه قال ابن السمعاني وحقيقته أن يختلف المختلفون في أمر على أقاويل فيأخذ بأقلها إذا لم يدل على الزيادة دليل قال القفال الشاشي هو أن يرد الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم مبينا لمجمل ويحتاج إلى تجديده فيصار إلى ما يوجد كما قال الشافعي في أقل الجزية إنه دينار وقال ابن القطان هو أن يختلف الصحابي في تقديره فيذهب بعضهم إلى مائة مثلا وبعضهم إلى خمسين فإن كان ثم دلالة تعضد أحد القولين صير إليها وإن لم يكن دلالة فقد اختلف فيه أصحابنا فمنهم من قال يأخذ بأقل ما قيل ويقول إن هذا مذهب الشافعي لأنه قال أن دية اليهود الثلث وحكى اختلاف الصحابة فيه وأن بعضهم قال بالمساواة وبعضهم قال بالثلث فكان هذا أقلها‏.‏

وقسم ابن السمعاني إلى قسمين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون ذلك فيما أصله البراءة فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى لموافقة براءة الذمة ما لم يقم دليل الوجوب وإن كان الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية الميت إذا وجبت على قاتله فهل يكون الأخذ بأقله دليلا اختلف أصحاب الشافعي فيه‏.‏

القسم الثاني‏:‏ أن يكون مما هو ثابت في الذمة كالجمعة الثابت فرضها مع اختلاف العلماء في عدد انعقادها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها فلا تبرى الذمة عنه إلا بدليل لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعا وفي الأقل خلاف فلذلك جعلها الشافعي تنعقد بأربعين لأن هذا العدد أكثر ما قيل الثاني‏:‏ لا يكون دليلا لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل انتهى والحاصل أنهم جعلوا الأخذ بأقل ما فيها متركبا من الإجماع والبراءة الأصلية وقد أنكر جماعة الأخذ بأقل ما قيل‏.‏

قال ابن حزم وإنما إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام ولا سبيل إليه وحكى قولا بأنه يؤخذ بأكثر ما قيل ليخرج من عهدة التكليف بيقين ولا يخفاك أن الاختلاف في التقدير بالقليل والكثير أن كان باعتبار الأدلة ففرض المجتهد بما صح له منها من الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح إن لم يمكن وقد تقرر أن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح الواقعة غير منافية للمزيد مقبولة يتعين الأخذ بها والمصير الى مدلولها وان كان الاختلاف في التقدير باعتبار المذاهب فلا اعتبار عند الجمهور بمذاهب الناس بل هو متعبد باجتهاده وما يؤدي إليه نظره من الأخذ بالأقل أو بالأكثر أو بالوسط وأما المقلد فليس له من الأمر شيء بل هو أسير إمامه في جميع دينه وليته لم يفعل وقد أوضحنا الكلام في التقليد في المؤلف الذي سميناه أدب الطلب وفي الرسالة المسماة القول المفيد في حكم التقليد‏.‏

وكما وقع الخلاف في مسألة الأخذ بأقل ما قيل كذلك وقع الخلاف في الأخذ بأخف ما قيل وقد صار بعضهم إلى ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بعثت بالحنفية السمحة السهلة» وقوله‏:‏ «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وبعضهم صار إلى الأخذ بالأشق ولا معنى للخلاف في مثل هذا لأن الدين كله يسر والشريعة جميعها سمحة سهلة والذي يجب الأخذ به ويتعين العمل عليه هو ما صح دليله فإن تعارضت الأدلة لم يصلح أن يكون الأخف مما دلت عليه أو الأشق مرجحا بل يجب المصير إلى المرجحات المعتبرة‏.‏

الفائدة الثالثة‏:‏ ‏[‏في المثبت للحكم والنافي له‏]‏

لا خلاف أن المثبت للحكم يحتاج إلى إقامة الدليل عليه وأما النافي له فاختلفوا في ذلك على مذاهب‏.‏

الأول‏:‏ أن يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ونقله ابن القطان على أكثر اصحاب الشافعي وجزم به القفال والصيرفي وقال الماوردي إنه مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء والمتكلمين وقال القاضي في التقريب إنه الصحيح وبه قال الجمهور قالوا لأنه مدع والبينة على المدعي ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله‏}‏ فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبينا ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏}‏ في جواب قوله‏:‏ ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى‏}‏‏.‏

ولا يخفاك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه فإن النافي غير مدع بل قائم مقام المنع متمسك بالبراءة الأصلية ولا هو مكذب بما لم يحط بعلمه بل واقف حتى يأتيه الدليل وتضطره الحجة إلى العمل وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين‏}‏ فهو نصب للديل في غير موضعه فإنه إنما طلب منهم البرهان لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل وإليه ذهب أهل الظاهر إلا ابن حزم فإنه رجح المذهب الأول قالوا لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم فمن نفى الحكم له أن يكتفي بالاستصحاب وهذا المذهب قوي جدا فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي دون الشرعي حكاه القاضي في التقريب وابن فورك‏.‏

المذهب الرابع‏:‏ أنه يحتاج إلى الدليل في غير الضروري بخلاف الضروري وهذا اختاره الغزالي ولا وجه له فإن الضروري يستغني بكونه ضروريا ولا يخالفه مخالف إلا على جهة الغلط أو الاعتراض الشبهة ويرتفع عنه ذلك ببيان ضروريته وليس النزاع إلا في الضروري‏.‏

المذهب الخامس‏:‏ أن النافي إن كان شاكا في نفيه لم يحتج إلى دليل وإن كان نافيا له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية لا إن كانت ضرورية فلا نزاع في الضروريات كذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص ولا وجه له فإن النافي عن معرفة يكفيه المثبت بإقامة الدليل حتى يعمل به أو يرده لأنه هو الذي جاء بحكم يدعى أنه واجب عليه وعلى خصمه وعلى غيرهما‏.‏

المذهب السادس‏:‏ أن النافي أن نفى العلم عن نفسه فقال لا أعلم ثبوت هذا الحكم فلا يلزمه الدليل وإن نفاه مطلقا احتاج إلى الدليل لأن نفي الحكم حكم كما أن الاثبات حكم قال ابن البرهان في الأوسط وهذا التفصيل هو الحق انتهى قلت بل الحق ما قدمناه‏.‏

المذهب السابع‏:‏ أنه إن ادعى لنفسه علما بالنفي احتاج إلى الدليل وإلا فلا هكذا ذكر هذا المذهب بعض أهل الجدل واختاره المطرزي وهو قريب من المذهب الخامس‏.‏

المذهب الثامن‏:‏ أنه إذا قال لم أجد فيه دليلا بعد الفحص عنه وكان من أهل الاجتهاد لم يحتج إلى دليل وإلا احتاج هكذا قال ابن فورك‏.‏

المذهب التاسع‏:‏ أنه حجة دافعة لا موجبة حكاه أبو زيد ولا وجه له فإن النفي ليس بحجة موجبة على جميع الأقوال وإنما النزاع في كونه يحتاج إلى الاستدلال على النفي فيطالب به مطالبة مقبولة في المناظرة أم لا واختلفوا إذا قال العالم بحثت وفحصت فلم أجد دليلا هل يقبل منه ذلك ويكون عدم الوجدان دليلا له فقال البيضاوي يقبل لأنه يغلب ظن عمده وقال ابن برهان في الأوسط أن صدر هذا عن المجتهد في باب الاجتهاد والفتوى بل منه ولا يقبل منه في المناظرة لأن قوله بحثت فلم أظفر يصلح أن يكون عذرا فيما بينه وبين الله أما انتهاضه في حق خصمه فلا‏.‏

الفائدة الرابعة‏:‏ سد الذرائع

الذريعة هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور قال الباجي ذهب مالك إلى المنع من الذرائع وقال أبو حنفية والشافعي لا يجوز منعها استدل المانع بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر‏}‏ وما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقوله‏:‏ «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه»‏.‏

قال القرطبي سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلا وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا ثم قرر موضع الخلاف فقال اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع قطعا أولا الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والذي لا يلزم أما أن يفضي إلى المحظور غالبا أو ينفك عنه غالبا أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا فالأول لابد من مراعاته والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه فمنهم من يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة قال القرافي‏:‏ مالك لم ينفرد بذلك بل كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها قال فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله ومنها ما هو ملغى إجماعا كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر وإن كانت وسيلة إلى المحرم ومنها هو مختلف فيه كبيوع الآجال فنحن لا نغتفر الذريعة فيها وخالفنا غيرنا في أصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا قال وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت‏}‏ فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم لحبس الصيد يوم الجمعة وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقبل شهادة خصم وظنين» خشية الشهادة بالباطل ومنع شهادة الآباء للأبناء‏.‏

وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا أمر مجمع عليه وإنما النزاع في ذريعة خاصة وهو بيوع الآجال ونحوها فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس وحينئذ فليذكروا حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس قال بل من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمته قالت لعائشة إني بعت منه عبدا بثمانمائة إلى العطاء واشتريته منه نقدا بستمائة فقالت عائشة بئسما اشتريت وأخبرني زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب‏.‏

قال أبو الوليد بن رشد وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده مع القول بتحريم هذه الذرائع ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده‏.‏

قال الزركشي وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم ثم أنها أنكرت ذلك لفساد التعيين فإن الأول فاسد بجهالة الأجل فإن وقت العطاء غير معلوم والثاني بناء على الأول فيكون فاسدا قال ابن الرفعة‏:‏ الذريعة ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعندهم يعني عند الشافعية والمالكية والثاني ما يقطع بأنه لا يوصل ولكن اختلط بما يوصل فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه وهذا غلو في القول بسد الذرائع والثالث ما يحتمل ويحتمل وفيه مراتب ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها قال ونحن نخالفهم فيها إلا القسم الأول لانضباطه وقيام عليه انتهى ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا وإن حمى الله معاصيه فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه» وهو حديث صحيح ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «دع ما يريبك إلى ما لايريبك» وهو حديث صحيح أيضا وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس» وهو حديث حسن وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «استفت قلبك وإن أفتاك المفتون» وهو حديث حسن أيضا‏.‏

الفائدة الخامسة‏:‏ دلالة الاقتران

وقد قال بها جماعة من أهل العلم فمن الحنفية أبو يوسف ومن الشافعية المزني وابن أبي هريرة وحكى ذلك الباجي عن بعض المالكية قال ورأيت ابن نصر يستعملها كثيرا ومن ذلك استدلال مالك على سقوط الزكاة في الخيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة‏}‏ قال فقرن بين الخيل والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعا فكذلك الخيل وأنكر دلالة الاقتران الجمهور فقالوا إن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم واحتج المثبتون إما بأن العطف يقتضي المشاركة‏.‏

وأجاب الجمهور بأن الشركة إنما تكون في المتعاطفات الناقصة المحتاجة إلى ما تتم به فإذا تمت بنفسها فلا مشاركة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار‏}‏ فإن الجملة الثانية معطوفة على الأولى ولا تشاركها في الرسالة ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة والأصل في كل كلام تام أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيره فمن ادعى خلاف هذا في بعض المواضع فلدليل خارجي ولا نزاع فيما كان كذلك ولكن الدلالة فيه ليست للإقتران بل للدليل الخارجي أما إذا كان المعطوف ناقصا بأن لا يذكر خبره كقول القائل فلانة طالق وفلانة فلا خلاف في المشاركة ومثله عطف المفردات وإذا كان بينهما مشاركة في العلة فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها لأجل الاقتران‏.‏

وقد احتج الشافعي على وجوب العمرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ والأمر يقتضي الوجوب فكان احتجاجه بالأمر دون الاقتران‏.‏

وقال الصيرفي في شرح الرسالة في حديث أبي سعيد وغسل الجمعة على كل محتلم والسواك وأن يمس الطيب فهو دلالة على الغسل غير واجب لأنه قرنه بالسواك والطيب وهما غير واجبين بالاتفاق والمروي عن الحنفية كما حكاه الزركشي عنهم في البحر أنها إذا عطفت جملة على جملة فإن كانتا تامتين كانت المشاركة في أصل الحكم لا في جميع صفاته وقال لا تقتضي المشاركة أصلا وهي التي تسمى واو الاستئناف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل‏}‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏ويمح الله الباطل‏}‏ جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ولا هي داخلة في جواب الشرط وإن كانت الثانية ناقصة شاركت الأولى في جميع ما هي عليه قال وعلى هذا بنو بحثهم المشهور في قوله صلى الله عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر وقد سبق الكلام فيه‏.‏

الفائدة السادسة‏:‏ دلالة الإلهام

ذكرها بعض الصوفية وحكى الماوردي والرياني في كتاب القضاء في حجية الإلهام خلافا وفرعا عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل وإلا فلا قال الزركشي في البحر وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام منهم في تفسيره في أدلة القبلة وابن الصلاح في فتاواه فقال إلهام خاطر الحق من الحق قال ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض آخر قال أبو علي التميمي في كتاب التذكرة في أصول الدين ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرار للعباد على سبيل الالهام بحكم وعد الله سبحانه وتعالى بشرط التقوى واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا‏}‏ أي ما تفرقون به بين الحق والباطل وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجا‏}‏ أي عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله ويعلمكم الله‏}‏‏.‏

فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم وسلمت قلوبهم لله تعالى بترك المنهيات وامتثال المأمورات وخبره صدق ووعده حق واحتج شهاب الدين السهروردي على الإلهام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل‏}‏ فهذا الوحي هو مجرد الإلهام ثم إن من الوحي علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن من أمتي المحدثين والمكلمين وإن عمر لمنهم» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ فأخبر أن النفوس ملهمة‏:‏ قلت وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح بمعناه قال ابن وهب في تفسير الحديث أي ملهمون ولهذا قال صاحب نهاية الغريب جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدسا وفراسة وهو نوع يخص به الله من يشاء من عباده كأنهم حدثوا بشيء فقالوه وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «استفت قلبك وإن أفتاك الناس» فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة‏.‏

قال الغزالي واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتى أما حيث حرم فيجب الامتناع ثم لا نقول على كل قلب فرب قلب موسوس ينفي كل شيء ورب متساهل يطير إلى كل شيء فلا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور وما أعز هذا القلب‏.‏

قال البيهقي في شعب الإيمان هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى أن يحتاج إليه أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك كما ورد في بعض طرق الحديث بلفظ وكيف يحدث قال يتكلم الملك على لسانه وقد روى عن إبراهيم بن سعد أنه قال في هذا الحديث يعني يلقى في روعه قال القفال لو تثبت العلوم بالإلهام لم يظن للنظر معنى ونسأل القائل بهذا عن دليله فإن احتج بغير الإلهام فهو ناقض قوله انتهى‏.‏

ويجاب عن هذا الكلام بأن مدعي الإلهام لا يحصر الأدلة في الإلهام حتى يكون استدلاله بغير الإلهام مناقضا لقوله نعم إن استدل على إثبات الإلهام بالإلهام كان في ذلك مصادرة على المطلوب لأنه استدل على محل النزاع بمحل النزاع ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة‏.‏

الفائدة السابعة‏:‏ في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق أن يكون حجة ويلزم العمل به وقيل حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم رؤية حق والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه وقيل إنه يعمل به ما لم يخالف شرعا ثابتا ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم قد كمله الله عز وجل وقال‏:‏ ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته صلى الله عليه وسلم إذ قال فيها بقول أو فعل فيها فعلا يكون دليلا وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبينها بالموت وإن كان رسولا حيا وميتا وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله صلى الله عليه وسلم أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة‏.‏

من مقاصد هذا الكتاب في الاجتهاد والتقليد

وفيه فصلان‏:‏

الفصل الأول في الاجتهاد

المسألة الأولى‏:‏ في حد الاجتهاد ‏[‏وشروط المجتهد‏]‏

وهو في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه قال المحصول وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة‏.‏

وأما في عرف الفقهاء‏:‏ فهو استفرغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفرغ الوسع فيه وهو سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهدا وليس هكذا حال الأصول انتهى وقيل هو في الاصطلاح بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط فقولنا بذل الوسع يخرج ما يحصل مع التقصير فإن معنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب ويخرج بالشرعي اللغوي والعقلي والحسي فلا يسمى من بذل وسعه في تحصيلها مجتهدا اصطلاحا وكذلك بذل الوسع في تحصيل الحكم العلمي فإنه لا يسمى اجتهادا عند الفقهاء وإن كان يسمى اجتهادا عند المتكلمين ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظاهرا أو حفظ المسائل أو استعلامها من المفتى أو بالكشف عنها في كتب العلم فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي‏.‏

وقد زاد بعض الأصوليين في هذا الحد لفظ الفقيه فقال بذل الفقيه الوسع ولابد من ذلك فإن بذل غير الفقيه وسعه لا يسمى اجتهادا اصطلاحا ومنهم من قال هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي فزاد قيد الظن لأنه لا اجتهاد في القطعيات ومنهم من قال هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه‏.‏

قال ابن السمعاني هو أليق بكلام الفقهاء‏.‏

وقال أبو بكر الرازي الاجتهاد يقع على ثلاثة معان‏:‏ أحدها القياس الشرعي لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز جودها خالية عنه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب فذلك كان طريقة الاجتهاد والثاني ما يغلب في الظن من غير علة كالاجتهاد في الوقت والقبلة والتقويم والثالث الاستدلال بالأصول‏.‏

قال الآمدي هو في الاصطلاح استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه وبهذا القيد خرج اجتهاد المقصر فإنه لا يعد في الاصطلاح اجتهادا معتبرا وإذا عرفت هذا فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي ولابد أن يكون بالغا عاقلا قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها وإنما يتمكن من ذلك بشروط الأول أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهدا ولا يجوز له الاجتهاد ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام‏.‏

قال الغزالي وابن العربي والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والإلتزام وقد حكى المارودي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية‏.‏

قال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة فقيل خمسمائة حديث وهذا أعجب ما يقال فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة‏.‏

وقال ابن العربي في المحصول هي ثلاثة آلاف وقال أبو علي الضرير قلت لأحمد بن حنبل كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي يكفيه مائة ألف‏؟‏ قال لا قلت ثلاثمائة ألفظ قال لا قلت أربعمائة‏؟‏ قال لا قلت خمسمائة ألف‏؟‏ قال أرجو قال بعض أصحابه هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو يكون العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون ألفا ومائتين‏.‏

قال أبو بكر الرازي لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب إذ لا يمكن الأحاطة به ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى وقال الغزالي وجماعة من الأصوليين يكفيه أن يكون عنده أصل بجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن للبيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجمع أحاديث الأحكام ويكتفي فيه بمواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة وتبعه على ذلك الرافعي ونازعه النووي وقال لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود وكذا قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان التمثيل بسنن أبي داود ليس يجيد عندنا لوجهين‏:‏ الأول أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها الثاني أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام انتهى‏.‏

ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط وبعضه من قبيل التفريط والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لابد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست وما يلحق بها مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة الى ذلك وان يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف بحيث يعرف حال رجال الاسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح وما لا يوجبه من الأسباب وما هو مقبول منها وما هو مردود وما هو قادح‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن يكون عارفا بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يكون عالما بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ولا يشترط أن يكون متمكنا من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك وقد قربوها أحسن تقريب وهذبوها ابلغ تهذيب ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه ولا يبعد الاطلاع عليه وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تراكيبها وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالما بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان حتى ثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصرا في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن قال الإمام الشافعي يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه قال الماوردي ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ أن يكون عالما بعلم أصول الفقه لاشتماله على نفس الحاجة إليه وعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه وعليه أيضا أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظرا يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط قال الفخر الرازي في المحصول وما أحسن ما قال أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى قال الغزالي إن عظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون الحديث واللغة وأصول الفقه‏.‏

الشرط الخامس‏:‏ أن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي فشرطه جماعة منهم الغزالي والرازي ولم يشترط الآخرون وهو الحق لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية لا على الأدلة العقلية ومن جعل العقل حاكما فهو لا يجعل ما حكم به داخلا في مسائل الاجتهاد واختلفوا أيضا في اشتراط علم أصول الدين فمنهم من يشترط ذلك وإليه ذهب المعتزلة ومنهم من لم يشترط ذلك وإليه ذهب الجمهور ومنهم من فصل فقال يشترط العلم بالضروريات كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق بالرسل بما جاءوا به ولا يشترط علمه بدقائقه وإليه ذهب الآمدي واختلفوا أيضا في اشتراط على الفروع فذهب جماعة منه الأستاذ ابو إسحاق أبو منصور إلى اشتراطه واختاره الغزالي وقال إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه قالوا وإلا لزم الدور وكيف يحتاج إليها وهو الذي يولدها بعد حيازته لمنصب الاجتهاد وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل وهو كذلك ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه قالوا لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وهو كذلك ولكنه مندرج تحت علم أصول الفقه باب من أبوابه وشعبة من شعبه‏.‏

وإذا عرفت معنى الاجتهاد والمجتهد فاعلم أن المجتهد فيه الحكم الشرعي العلمي قال في المحصول المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكاة وما اتفق عليه الأئمة من جليات الشرع قال أبو الحسين البصري المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية باختلافهم فيها لزوم الدور‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ هل يجوز خلو العصر عن المجتهدين أم لا‏؟‏

فذهب جمع إلا أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد قائم بحجج الله يبين للناس ما نزل إليهم قال بعضهم ولابد أن يكون في كل قطر من يقوم بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد قال والظاهر أنه لا يتأتى في الفتوى‏.‏

وقال بعضهم الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب فرض عين وفرض كفاية وندب فالأول على حالين اجتهاد في حق نفسه عند نزول الحادثة والثاني اجتهاد فيما يتعين عليه الحكم فيه فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور وإلا كان على التراخي والثاني على حالين أحدهما إذا نزلت بالمستفتى حادثة فاستفتى أحد العلماء توجه الفرض على جميع وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض وإلا أثموا جميعا والثاني أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر فيكون فرض الاجتهاد مشتركا بينهما فأيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنها والثالث على حالين أحدهما فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله والثاني أن يستفتيه قبل نزولها انتهى‏.‏

ولا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضا يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد ويدل على ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة» وقد حكى الزركشي في البحر عن الأكثرين أنه يجوز خلو العصر عن المجتهدين وبه جزم صاحب المحصول‏.‏

قال الرافعي الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم قال الزركشي ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي أو من قول الغزالي في الوسيط‏:‏ قد خلا العصر عن المجتهد المستقل قال الزركشي ونقل الاتفاق عجيب والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة وساعدهم بعض أئمتنا والحق أن الفقيه الفطن القياس كالمجتهد في حق العامي لا الناقل فقط وقالت الحنابلة لا يجوز خلو العصر عن مجتهد وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق والزبيري ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء قال ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زمانا من قائم بحجة زال التكليف إذا التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة وإذا زال التكليف بطلت الشريعة قال الزبيري لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت ودهر وزمان وذلك قليل في كثير فأما أن يكون غير موجود كما قال الخصم فليس بصواب لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بالخلق فليس بصواب كما جاء في الخبر لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار انتهى‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ هذا هو المختار عندنا لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان وقال في شرح خطبة الإمام والأرض لا تخلوا من قائم لله بالحجة والأمة الشريفة لابد لها من سالك إلى الحق على واضح الحجة إلى أن يتأتى أمر الله في أشراط الساعة الكبرى انتهى‏.‏

وما قاله الغزالي رحمه الله من أنه قد خلا العصر عن المجتهد قد سبقه إلى القول به القفال ولكنه ناقض ذلك فقال أنه ليس بمقلد للشافعي وإنما وافق رأيه رأيه كما نقل ذلك عنه الزركشي وقال قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد مما يقضي منه العجب فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرفاعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال جماعة منهم ومن كان له إلمام بعلم التاريخ والاطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتده أهل العلم في الاجتهاد وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار بل باعتبار أن الله عز وجل رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأئمة من كمال الفهم وقوة الإدراك والاستعداد للمعارف فهذه دعوى من أبطل الباطلات بل هي جهالة من الجهالات وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم وعلى أهل عصورهم فهذه أيضا دعوى باطلة فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره والسنة المطهرة قد دونت وتكلم الأمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد وقد كان السلف الصالح ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر فالاجتهاد على المتأخرين أيسر واسهل من الاجتهاد على المتقدمين ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سوي وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أتوا من قبل أنفسهم فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه واستصعبنا ما سهله الله على رزقه العمل والفهم وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسنة ولما هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية فها نحن نصرح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد فمنهم ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد ثم تلميذه ابن سيد الناس ثم تلميذه زين الدين العراقي ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني ثم تلميذه السيوقي فهؤلاء ستة أعلام كل واحد منهم تلميذ من قبله قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة عالم بعلوم خارجه عنها ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم والتعداد لبعضهم فضلا عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل وقد قال الزركشي في البحر ما لفظه ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد وكذلك ابن دقيق العيد انتهى وهذا الاجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الإتفاق من ذلك الشافعي الرافعي‏.‏

وبالجملة فتطوير البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة فإن أمره أوضح من كل واضح وليس ما يقوله من كان من إسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال وما هذه بأول فاقرة جاء بها المقلدون ولا هي بأول مقالة باطلة قالها المقصرون ومن حصر فضل الله على بعض خلقه وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره فقد تجرأ على الله عز وجل ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ثم على عبادة الدين تعبدهم الله بالكتاب وبالسنة ويالله العجب من مقالات هي جهالات وضلالات فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبد بالكتاب والسنة وإنه لم يبق إلا تقليد الرجال الذين هم متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حد سواء فإن كانت التعبد بالكتاب والسنة مختصا بمن كانوا في العصور السابقة ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله من كتاب الله وسنة رسوله فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة وهل النسخ إلا هذا سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ في تجزي الاجتهاد

وهو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا‏؟‏ بل لابد أن يكون مجتهدا وطلقا عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ عزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين وحكاه صاحب النكت عن أبي علي الجبائي وأبي عبد الله البصري قال ابن دقيق العيد وهو المختار لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد قال الغزالي والرافعي يجوز أن يكون العالم منتصب للاجتهاد في باب دون باب‏.‏

وذهب آخرون إلى المنع لأن المسألة في نوع من الفقه ربما كان أصلها في نوع آخر منه‏.‏

احتج الأولون بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل واللازم منتف فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب وكثير منهم سئل عن مسائل فأجاب في أربع منها وقال في الباقي لا أدري وأجيب بأنه قد يترك ذلك لمانع أو للورع أو لعلمه بأن السائل منعت وقد يحتاج بعض المسائل إلى فريد بحث يشغل المجتهد عنه شاغل في الحال‏.‏

واحتج الباقون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه في مسألة دون غيرها فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة فإنها إذا تمت كان مقتدرا على الاجتهاد في جميع المسائل وإن احتاج بعضها إلى مزيد بحث وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك ولا يثق من نفسه يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ لا يتعلقه قال الزركشي وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا عرف بابا دون باب أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعا والظاهر جريان الخلاف في الصورتين وبه صرح الأنباري انتهى‏.‏

ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزي الاجتهاد فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانع وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق وأما من ادعى الاحاطة بما يحتاج إليه في باب دون باب أو في مسألة دون مسألة فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك لأنه لا يزال يجوز الغير ما قد بلغ إليه علمه فإن قال قد غلب ظنه بذلك فهو مجازف وتتضح مجازفته بالبحث معه‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ ‏[‏في جواز الاجتهاد للأنبياء صلوات الله عليهم‏]‏

اختلفوا في جواز الاجتهاد للأنبياء صلوات الله عليهم بعد أن أجمعوا على أنه يجوز عقلا تعبدهم بالاجتهاد كغيرهم من المجتهدين حكى هذا الإجماع ابن فورك والأستاذ أبو منصور وأجمعوا أيضا على أنه يجوز لهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها حكى هذا الإجماع سليم الرازي وابن حزم وذلك كما قلت وقع من نبينا صلى الله عليه وسلم من إرادته بأن يصالح غطفان على ثمار المدينة وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة فأما اجتهادهم في الأحكام الشرعية والأمور الدينية فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقوله‏:‏ ‏{‏وما ينطق عن الهوى‏}‏ قد حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي وقال القاضي في التقريب كل من نفى القياس أحال تعبد النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد قال الزركشي وهو ظاهر اختيار ابن حزم واحتجوا أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل ينتظر الوحي ويقول ما أنزل علي في هذا شيء كما قال لما سئل عن زكاة الحمير فقال لم ينزل علي إلا هذه الآية الجامعة ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره‏}‏ وكذا انتظر الوحي في كثير مما سئل عنه ومن الذاهبين إلى هذا المذهب أبو علي وأبو هاشم‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ أنه يجوز لنبينا صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء وإليه ذهب الجمهور واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم كما خاطب عباده وضرب له الأمثال وأمره بالتدبر والاعتبار وهو أجل المتفكرين في آيات الله وأعظم المعتبرين وأما قوله‏:‏ ‏{‏وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ فالمراد به القرآن لأنهم قالوا إنما يعلمه بشر ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده لأنه صلى الله عليه وسلم إذا كان معبدا بالاجتهاد وبالوحي لم يكن نطقا عن الهوى بل عن الوحي وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع مع كونه معرضا للخطأ فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى وأيضا قد وقع كثيرا منه صلى الله عليه وسلم ومن غيره من الأنبياء فأما منه فمثل قوله أرأيت لو تمضمضت أرأيت لو كان على أبيك ديه وقوله للعباس الإذخر ولم ينتظر الوحي في كثير مما سئل عنه وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه» وأما من غيره فمثل قصة داود وسليمان وأما ما احتج به المانعون أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة إذ لا قطع بأنه حكم الله لكونه محتملا للإصابة ومحتملا للخطأ فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاد يكون له حكم اجتهاد غيره فإن ذلك إنما كان لازما لاجتهاد غيره لعدم اقترانه بما اقتران به اجتهاده صلى الله عليه وسلم من الأمر باتباعه وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لما في جواب سؤال سائل فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب والنظر فيما ينبغي النظر فيه في الحادثة كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين‏.‏

المذهب الثالث‏:‏ الوقف عن القطع بشيء من ذلك وزعم الصيرفي في شرح الرسالة أنه مذهب الشافعي لأنه حكى الأقوال ولم يختر شيئا منها واختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي ولا وجه للوقف في المسألة لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ فعاتبه على ما وقع منه ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى» أي لو عملت أولا ما علمت آخرا ما فعلت ذلك ومثل ذلك لا يكون فيما عمله صلى الله عليه وسلم بالوحي وأمثال ذلك كثيرة كمعاتبته صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ وكما في معاتبته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك‏}‏ إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل وفيما ذكرناه ما يغني عن ذلك ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع أو التوقف لأجلها‏.‏

المسألة الخامسة‏:‏ في جواز الاجتهاد في عصره صلى الله عليه وسلم

فذهب الأكثرون إلى جوازه ووقوعه واختاره جماعة من المحققين منهم القاضي ومنهم من منع ذلك كما روي عن أبي علي وأبي هاشم ومنهم من فصل بين الغائب والحاضر فأجازه لمن غاب عن حضرته صلى الله عليه وسلم كما وقع في حديث معاذ دون من كان فبحضرته الشريفة صلى الله عليه وسلم واختاره الغزالي وابن الصباغ ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء والمتكلمين ومال إليه إمام الحرمين‏.‏

قال القاضي عبد الوهاب إنه الأقوى على أصول أصحابهم قال ابن فورك بشرط تقريره عليه وقال ابن حزم إن كان اجتهاد الصحابي في عصره صلى الله عليه وسلم في الأحكام كإيجاب شيء أو تحريمه فلا يجوز كما وقع في أبي السنابل من الإفتاء باجتهاده في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر فاخطأوا في ذلك وإن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز كاجتهادهم فيما يجعلونه علماء للدعاء إلى الصلاة لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة يلزم وكاجتهاد قوم بحضرته صلى الله عليه وسلم فيمن هم السبعون الفا الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر ليلة البدر فأخطأوا في ذلك وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هم ولم يعنفهم في اجتهادهم ومنهم من قال وقع ظنا لا قطعا واختاره الآمدي وابن الحاجب‏.‏

ومنهم من قال إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد إذا أمره بذلك كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من أمره لسعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة وإن لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز له الاجتهاد إلا أن يجتهد ويعلم به النبي صلى الله عليه وسلم فيقرر عليه كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل فإنه قال لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد الله فيعطيك سلبه فقرره النبي صلى الله عليه وسلم والحق ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته صلى الله عليه وسلم فيما نابه من الأمر وبين من كان غائبا عنها فيجوز له الاجتهاد وقد وقع من ذلك واقعات متعددة كما وقع من عمرو بن العاص من صلاته بأصحابه وكان جنبا ولم يغتسل بل تيمم وقال سمعت الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ فقرره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وكما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه «لا يصلين أحد إلا في بني قريظة» فتخوف ناس من فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فات الوقت فما عنف أحدا من الفريقين ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه من إلى اليمن وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض مجموعها للحجة كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل ومنه بعثه صلى الله عليه وسلم لعلي قاضيا فقال لا علم لي بالقضاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم أهد قلبه وثبت لسانه» أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر فأتوا عليا يختصمون في الولد فأقرع بينهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا أعلم فيها إلا ما قال علي وإسناده صحيح وأمثال هذا كثيرة‏.‏

قال الفخر الرازي في المحصول الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه وقد اعترض عليه ذلك ولا وجه للاعتراض لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة وشرعا بالتقرير لا باجتهاج الصحابي وإن لم يبلغه كان اجهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي عند من قال بجوازه في عصره صلى الله عليه وسلم وأنكره أو قال فخلافه فليس في ذلك الاجتهاد فائدة لأنه قد بطل بالشرع‏.‏

المسألة السادسة‏:‏ فيما ينبغي للمجتهد أن يعمله في اجتهاده ويعتمد عليه

فعليه أولا أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما فإن لم يجد نظر في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ثم في تقرير أنه لبعض أمته ثم في الإجماع إن كان يقول بحجيته ثم في القياس على ما يقتضيه اجتهاده من العمل بمسالك العلة كلا أو بعضا وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي فيما حكاه عنه الغزالي أنها إذا وقعت الواقعة للمجتهد فليعرضها على نصوص الكتاب فإن أعوزه عرضها على الخبر المتواتر ثم الآحاد فإن أعوزه لم يخض في القياس بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهرا نظر في المخصصات من قياس وخبر فإن لم يجد مخصصا حكم به وإن لم يعثر على ظاهر من كتاب ولا سنة نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع وإن لم يجد إجماعا خاض في القياس ويلاحظ القواعد الكلية أولا ويقدمها على الجزئيات كما في القتل بالمثقل فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الاسم فإن عدم قاعدة كلية نظر في المنصوص ومواقع الإجماع فإن وجدها في معنى واحد ألحق به وإلا انحدر به القياس فإن أعوزه تمسك بالشبه ولا يعول على طرد انتهى‏.‏

وإذا أعوزه ذلك كله تمسك بالبراءة الأصلية وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول فإن أعوزه ذلك رجع إلى الترجيح بالمرجحات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الماوردي الاجتهاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثمانية أقسام‏:‏ أحدها‏:‏ ما كان الاجتهاد مستخرجا من معنى النص كاستخراج علة الربا فهذا صحيح عند القائلين بالقياس ثانيهما‏:‏ ما استخرج من شبه النص كالعبد لتردد شبهه بالحرفي أنه يملك لأنه مكلف وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك لأنه مملوك فهذا صحيح غير مرفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له غير أن المنكرين له جعلوه داخلا في عموم أحد الشبهين ثالثها‏:‏ ما كان مستخرجا من عموم كالذي بيده عقدة النكاح في قوله‏:‏ ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏}‏‏.‏

فإنه من إجماع النص أحدهما وهذا صحيح بتوصيل بالترجيح إليه‏.‏

رابعها‏:‏ ما استخرج من إجماع النص كقوله في المتعة ‏{‏ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره‏}‏ فيصح الاجتهاد في قدر المتعة باعتبار حال الزوجين خامسها‏:‏ ما استخرج من أحوال النص كقوله في التمتع ‏{‏فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم‏}‏ فاحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه وإذا رجع إلى أهله فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى سادسها‏:‏ ما استخرج من دلائل النص كقوله‏:‏ ‏{‏لينفق ذو سعة من سعته‏}‏ فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكل مسكين مدين واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأنه أقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء أن لكل مسكين مدا سابعها‏:‏ ما استخرج من أمارات النص كاستخراج دلائل القبلة لمن خفيت عليه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلامات وبالنجم هم يهتدون‏}‏ فيكون الاجتهاد في القبلة بالأمارات والدلائل عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم ثامنها‏:‏ ما استخرج من غير نص ولا أصل فاختلف في صحة الاجتهاد فقيل لا يصح حتى يقترن بأصل وقيل يصح لأنه في الشرع أصل انتهى‏.‏

وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وحعل كل ذلك دأبه ووجه إليه همته واستعان بالله عز وجل واستمد منه التوفيق وكان معظم همه ومرمى قصده الوقوف على الحق والعثور على الصواب من دون تعصب لمذهب من المذاهب وجد فيهما ما يطلبه فإنهما الكثير الطيب والبحر الذي لا ينزف والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه العذب الزلال والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف فاشدد يديك على هذا فإنك إن قبلته بصدر منشرح وقلب موفق وعقل قد حلت به الهداية وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنا ما كان فإن استعبدت هذا المقال واستعظمت هذا الكلام وقلت كما قاله كثير من الناس إن أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث، فمن نفسك أتيت ومن قبل تقصيرك أصبت وعلى نفسها براقش تجني وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية‏:‏

لا تعذل المشتاق في أشواقه *** حتى تكون حشاك في أحشائه

لا يعرف الشوق إلا من يكابده *** ولا الصبابة إلا من يعانيها

دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى *** فإذا هويت فعند ذلك عنف

المسألة السابعة‏:‏ ‏[‏في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والمسائل التي الحق فيها مع واحد‏]‏

اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والمسائل التي الحق فيها مع واحد من المجتهدين، وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين‏:‏

الفرع الأول‏:‏ العقليات

وهي على أنواع الأول ما يكون الغلط فيه مانعا من معرفة الله كما في إثبات العلم بالصانع والتوحيد والعدل قالوا فهذه الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب الحق ومن اخطأه فهو كافر النوع الثاني مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فالحق فيها واحد فمن أصابه فقد أصاب ومن أخطأه فقيل يكفر ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعم النوع الثالث إذا لم تكن المسألة دينية كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف قالوا فليس المخطئ فيها بآثم ولا المصيب فيها بمأجور إذ هذه وما يشابهها يجري مجرى الاختلاف في كون ملكه أكبر من المدينة أو أصغر منها‏.‏

وقد حكى ابن الحاجب في المختصر أن المصيب في العقليات واحد ثم حكى عن العنبري أن كل مجتهد في العقليات مصيب وحكى ايضا عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد بخلاف المعاهد قال الزركشي وأما الحق فجعل الحق فيها واحد ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم‏.‏

قال ابن السمعاني وكان العنبري يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر هؤلاء نزهوا الله وقد استشبع هذا القول منه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهادهم قال ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة كالرؤية وخلق الأفعال ونحوه وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى والمجوس فهذا مما يقطع فيه بقول اهل الإسلام‏.‏

قال القاضي في مختصر التقريب اختلفت الروايات عن العنبري فقال في أشهر الروايتين إنما أصوب كل مجتهد في الذين يجمعهم الله وأما الكفرة فلا يصوبون وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة قال ونحن نتكلم معهما يعني العنبري والجاحظ فنقول أنتما أولا محجوجان بأن الإجماع قبلكما وبعدكما‏.‏

ثانيا أن اردتما بذلك مطابقة الإعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف ونفي الحرج كما نقل عن الجاحظ فالبراهين العقلية من الكتاب والسنة والإجماع الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه‏.‏

وقد حكى القاضي أيضا في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني إمام مذهب الظاهر أنه قال بمثل قول العنبري وحكى قوم عن العنبري والجاحظ أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا وغيرهم وقد نحا الغزالي نحو هذا المنحى في كتاب التفرقة بين الاسلام والزندقة‏.‏

وقال ابن دقيق العيد ما نقل عن العنبري والجاحظ أن أراد أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر فباطل وإن أريد به من بذل الوسع ولم يقصر في الأصوليات يكون معذورا غير معاقب فهذا اقرب لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب وكلف بعد استفراغه غاية الجهد لزم تكليفه بما لا يطاق قال وأما الذي حكى عنه من الاصابة في العقائد القطعية فباطل قطعا ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى وأما المخطئ في الأصول والمجتهد فلا شك في تأثيمه وتفسيقه تضليله واختلف في تكفيره وللأشعري قولان‏.‏

قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما وأظهر مذهبه ترك التكفير وهو اختيار القاضي في متاب المتأولين وقال ابن السلام رجع الإمام الحسن الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوف‏.‏

قال الزركشي وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي لا يكفر فقيل له ألا يكفرك فعاد إلى القول بالتكفير وهذا مذهب المعتزلة فهم يكفرون خصومهم ويكفر كل فريق منهم الآخر وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير وقال إنما يكفر من جهل وجود الرب أو علم وجوده ولكن فعل فعلا أو قال قولا أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر انتهى‏.‏

واعلم أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبة كؤود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه ولا يحرص عليه لأنه مبني على شفا جرف هار وعلى ظلمات بعضها فوق بعض وغالب القول به ناشئ عن العصبية وبعضه ناشئ عن شبه واهية ليست من الحجة في شيء ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين فضلا عن هذا الأمر الذي هو مزلة خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يدفع ذلك دفعا لا شك فيه ولا شبهة فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب والسنة فإن ذلك دعوى باطلة مترتبة على شبهة داحضة وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام فموضعه علم الكلام‏.‏

الفرع الثاني‏:‏ المسائل الشرعية

فذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو هاشم وأتباعهم إلى أنها تنقسم إلى قسمين‏.‏

الأول‏:‏ ما كان منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها بمصيب بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطئ غير معذور وكفره جماعة منهم لمخالفته للضروري وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل إن قصر فهو مخطئ آثم وإن لم يقصر فهو مخطئ غير آثم قال ابن السمعاني ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحانا من الله لعباده ليفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وفوق كل ذي علم عليم‏}‏‏.‏

القسم الثاني‏:‏ المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها وقد اختلفوا في ذلك اختلافا طويلا واختلف النقل عنهم ذلك اختلافا كثيرا فذهب جمع جم إلى أن قول من أقوال المجتهدين فيها حق وأن كل واحد منهم مصيب وحكاه الماوردي والرياني عن الأكثرين‏.‏

قال الماوردي وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة وذهب أبو حنفية ومالك والشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا وحراما وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخطئ بعضهم بعضا ويعترض بعضهم على بعض ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقا لم يكن للتخطئة وجه ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد هل كل مجتهد مصيب أم لا‏؟‏ فعند مالك والشافعي وغيرهما أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد‏.‏

وقال جماعة منهم أبو يوسف إن كل مجتهد مصيب وإن كان الحق مع واحد وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله وأنكر ذلك أبو إسحاق المروزي وقال إنما نسبة إليه قوم من المتأخرين ممن لا معرفة لهم بمذهبه‏.‏

قال القاضي أبو الطيب الطبري واختلف النقل عن أبي حنفية فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا وفي بعض كقول أبي يوسف وقد روى عن اهل العراق وأصحاب مالك وابن شريح وأبي حامد بمثل قول أبي يوسف واستدل ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ولا يجوز إجماعهم على خطأ‏.‏

قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها أن الحق في واحد وهو المطلوب وعليه دليل منصوب فمن وضع النظر موضعه أصاب ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه ولا نقول إنه معذور لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة وهو عندنا قد كلف إصابة العين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في كتاب الرسالة وأدب القاضي‏.‏

والثاني أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئا‏.‏

والثالث أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن انتهى وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية وحكى عن أهل الظاهر وعن جماعة من الشافعية وطائفة من الحنفية‏.‏

وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة واستكثر من ذلك الرازي في المحصول ولم يأتوا بما يشفى طالب الحق وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق إيضاحا لا يبقى بعده ريب لمرتاب وهو الحديث الثابت في الصحيح من طرق أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق اجرين وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيبا واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر فمن قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعددا بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينا وخالف الصواب بمخالفة ظاهرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المجتهدين قسمين قسما مصيبا وقسما مخطئا ولو كان كل منهم مصيبا لم يكن لهذا التقسيم معنى وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم يوافق الحق في اجتهاده مخطئا ورتب على ذلك استحقاقه للأجر فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهدا ومما يحتج به على هذا حديث القضاء ثلاثة فإنه لو لم يكن الحق واحدا لم يكن للتقسيم معنى أو مثله قوله صلى الله عليه وسلم لأمير السرية‏:‏ «وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله عز وجل متعددا بتعداد المجتهدين تابعا لما يصدر عنهم من الاجتهادات فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عز وجل ومع شريعته المطهرة هي أيضا صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ولا عضدته شبهة تقبلها العقول وهي أيضا مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاد ما هو أنهض مما تمسك به ومن شك في ذلك وأنكره فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها من التصريح في كثير من المسائل بتخطئه بعضهم لبعض واعتراض بعضهم على بعض وأما استدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان فهو عليهم لا لهم فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان ولو كان الحق بيد كل واحد منهما لما كان لتخصيص سليمان بذلك معنى وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله‏}‏ فهو خارج عن محل النزاع لأن سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم من القطع والترك هو بإذنه عز وجل فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وأن حكمه على التخيير بين أمور يختار المكلف ما شاء منها كالواجب المخير أو أن حكمه يجب على الكل حتى يفعله البعض فيسقط على الباقين كفروض الكفايات فتدبر هذا وافهمه حق فهمه‏.‏

وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة لمن خشي فوت الوقت وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يصلين أحد إلا في بني قريظة» فالجواب عنه كالجواب عما قبله على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده وصح صدوره عنه لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده وفرق بين الإصابة والصواب فإن إصابة الحق هو الموافقة بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه من حيث كونه قد فعل ما كلف به واستحق الأجر عليه وإن لم يكن مصيبا للحق وموافقا له وإذا عرفت هذا حق معرفته لم تحتج إلى زيادة عليه‏.‏

وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة وما فيها من المذاهب تحريرا جيدا فقال الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أولا فإن كان الأول فإما يجده المجتهد أو لا الثاني على قسمين لأنه إما أن يقصر في طلبه أو لا يقصر فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقا وإن لم يكن مع العلم ولكن قصر في البحث عنه فكذلك وإن يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي وإن لم يجده فإن كان التقصير في الطلب فهو مخطئ وآثم وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص أو عرفه ومات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا وهل هو مخطئ أو مصيب على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه والأولى بأن يكون مخطئا وأما التخيير يقال فيها فإما أن يقال لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا بل إجماع وتابع لاجتهاد المجتهدين فهذا الثاني من قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي والغزالي والمعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعه ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة والمشهور عنهما خلافه فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به أو لم يوجد ذلك والأول هو القول بالأشبه وهو قول كثير من المصوبين وإليه صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن شريح في إحدى الروايتين عنه قال وأمل الثاني فقول الخلص من المصوبة انتهى‏.‏

المسألة الثامنة‏:‏ لا يجوز أن يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد

لأن دليلهما أن تعادلا من كل وجه ولم يمكن الجمع ولا الترجيح وجب عليه الوقف وإن أمكن الجمع بينهما وجب عليه المصير إلى الصورة الجامعة بينهما وإن ترجع أحدهما على الآخر تعين عليه الأخذ به وبهذا يعلم امتناع أن يكون له قولان متناقضان في وقت واحد باعتبار شخص واحد وأما في وقتين فجائز لجواز تغير الاجتهاد الأول وظهور ما هو أولى بأن يأخذ به مما كان قد أخذ به وأما بالنسبة إلى شخصين فيكون ذلك على اختلاف المذهبين المعروفين عند تعادل الأمارتين فمن قال بالتخيير جوز ذلك له ومن قال بالوقف لم يجوز فإن كان للمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوعه عن القول الأول بدلالته على تغير اجتهاد الأول إذا أفتى المجتهد مرة بما أدى إليه اجتهاده ثم سئل ثانيا عن تلك الحادثة فإما أن يكون ذاكرا لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون ذاكرا جاز له الفتوى به وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده الى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانيا وإن أدى إلى موافقة ما قد أفتى به أولا وإن لم يستأنف الاجتهاد لم يجز له الفتوى‏.‏

قال الرازي في المحصول ولقائل أن يقول لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به كان طريقا قويا حصل له الآن ظن أن ذلك القوى حق جاز له الفتوى به لأن العمل بالظن واجب وأما إذا حكم المجتهد باجتهاده فليس له أن ينقضه إذا تغير اجتهاده وترجع له ما يخالف الاجتهاد الأول لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام الشرعية وهكذا ليس له أن ينقض باجتهاد ما حكم به حاكم آخر باجتهاده لأنه يؤدي إلى ذلك ويتسلسل وتفوت مصلحة نصب الحكام وهي فصل الخصومات ما لم يكن ما حكم به الحاكم الأول مخالفا لدليل قطعي فإن كان مخالفا لدليل القاطع نقضه اتفاقا وإذا حكم المجتهد بما يخالف اجتهاده فحكمه باطل لأنه متعبد بما أدى إليه اجتهاده وليس له أن يقول بما يخالفه ولا يحل له أن يقلد مجتهدا آخر فيما يخالف اجتهاده بل يحرم عليه التقليد مطلقا إذا كان قد اجتهد في المسألة فأداه اجتهاده إلى حكم ولا خلاف في هذا وأما أن يجتهد فالحق أنه لا يجوز له تقليد مجتهد آخر مطلقا وقيل يجوز له فيما يخصه من الأحكام لا فيما لا يخصه فلا يجوز وقيل يجوز له تقليد من هو أعلم منه وقيل يجوز له أن يقلد مجتهدا من مجتهدي الصحابة ولأهل الأصول في هذه المباحث كلام طويل وليست محتاجة إلى التطويل فإن القول فيها لا مستند له إلا محض الرأي‏.‏

المسألة التاسعة‏:‏ في جواز تفويض المجتهد

قال الرازي في المحصول اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أو للعالم‏:‏ أحكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب‏؟‏ فقطع بوقوعه موسى بن عمران من المعتزلة وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه وهو المختار انتهى‏.‏

ولا خلاف في جواز التفويض إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو المجتهد أن يحكم بما رآه بالنظر والاجتهاد وإنما الخلاف في تفويض الحكم بما شاء المفوض وكيف اتفق له واستدل من قال بالجواز بأنه ليس بممتنع لذاته والأصل عدم امتناعه لغيره وهذا الدليل ساقط جدا وتفويض من كان ذا علم بأن يحكم بما أراد من غير تقييد بالنظر والاجتهاد مع كون الأحكام الشرعية تختلف مسالكها وتتباين طرائقها ولا علم للعبد بما عند الله عز وجل فيها ولا بما هو الحق الذي يرديه من عباده‏.‏

ولا ينبغي لمسلم أن يقول بجوازه ولا يتردد في بطلانه فإن العالم الجامع لعلوم الاجتهاد المتمكن من النظر والاستدلال إذا بحث وفحص وأعطى النظر حقه فليس معه إلا مجرد الطن بأن ذلك الذي رجحه وقاله هو الحق الذي طلبه الله عز وجل فكيف يحل له أن يقول ما أراد ويفعل ما اختار من دون نظر واجتهاد وكيف يجوز مثل ذلك على الله عز وجل مع القطع بأن هذا العالم الذي زعم الزاعم جواز تفويضه مكلف بالشريعة الإسلامية لأنه واحد من أهلها مأخوذ بما أخذوا به مطلوب منه ما طلب منهم فما الذي رفع عنه التكليف الذي كلف به غيره وما الذي كلف به غيره وما الذي أخرجه مما كان فيه من الخطاب مما كلف به وهل هذه المقالة إلا مجرد بحت ومجازفة ظاهرة وكيف يصح أن يقال بتفويض العبد مع جهله بما في أحكام الله من المصالح فإن من كان هذا قد يقع اختياره على ما فيه مصلحة وعلى ما لا مصلحة فيه‏.‏

وأما الاستدلال بقول سبحانه‏:‏ ‏{‏كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه‏}‏ فهو خارج عن محل النزاع لأن هذا تفويض لنبي من أنبياء الله وهم معصومون من الخطأ وإذا وقع منهم نادرا فلا يقرون عليه وجميع إصدارهم وإيرادهم هو بوحي من الله عز وجل أو باجتهاد يقرره الله عز وجل ويرضاه وهكذا يقال فيما استدلوا به من اجتهادات نبينا صلى الله عليه وسلم ووقوع الجوابات منه على ما سأله من دون انتظار الوحي وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو استقبلت من أمري ما استدبرت» وبمثل قوله لما سمع أبيات قتيلة بنت الحرث لو بلغني هذا لمننت عليه أي على أخيها النضر بن الحرث أحد أسرى بدر والقصة والشعر معروفان وأما اعتذر عن القائل بصحة ذلك بأنه إنما قال بالجواز ولم يقل بالوقوع فليس هذا الاعتذار بشيء فإن تجويز مثل هذا على الله عز وجل مما لا يحل لمسلم أن يقول به وقد عرفت أنه لا خلاف في جواز التفويض إلى الأنبياء وإلى المجتهدين بالنظر فليس محل النزاع إلا التفويض إلى من كان من أهل العلم أن يحكم بما شاء وكيف اتفق وحينئذ يتبين لك أن غالب ما جاء به جهل على جهل وظلمات بعضها فوق بعض‏.‏